لعله لا توجد ثقافة من الثقافات العالمية احتفت بالجمال مثل ثقافتنا العربية الإسلامية، كما يظهر من ديوان العرب الذي هو الشعر، فهو كله صور بلاغية وخيالية ووصفية تخلد الجمال في الأشياء والأشخاص والمواقف.
لم يكتفِ العرب سابقاً في أدبهم الغزلي بالوقوف عند جمالية المحبوب، بل إنهم حولوا الجمال إلى مستوى التعلق الروحي الأسمى. ففضلاً عن الصفات الإلهية نفسها التي تدل عليها مقولة «الأسماء الحسنى»، فإن الجمال اعتبر أفقاً مطلقاً ينشد ولا يوصل إليه، وإن تجسد -جزئياً- في موجودات محدودة. ما يطلبه الشاعر في وصفه لجمال محبوبه هو صفة الجمال نفسها التي تخرج عن كل تحديد وتقييد.
لقد اعتبر مفكرو الروحانية الإسلامية أن كل الصفات الإلهية تدور حول صفتي الجمال والجلال؛ الجمال من حيث كونه لطفاً ورحمة وقرباً ومحبة واصطفاء وتكريماً، والجلال من حيث هو قهر وقوة وقدرة.
الخلق نفسه مداره الجمال، لقد خلق الله الإنسان على أحسن وجه وأجمل صورة، بل إن الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم يؤكد أن «الله خلق آدم على صورته»، وتلك أبلغ دلالة على وضعية الجمال الأصلي في النوع البشري.
كما أن العلاقة بين الخالق والإنسان تتم عن طريق الكلمة المعجزة التي هي أجمل تعبير وأحسن سبك وأبهى نظم.
وهكذا نشأت علوم البلاغة لدى العرب من استقصاء هذه الأبعاد الجمالية في النص المقدس. فعلم البديع كما بلوره كبار البلاغيين العرب؛ مثل ابن المعتز وقدامة بن جعفر والقزويني والجرجاني وابن رشيق، يعنى بأوجه الحسن في استخدام اللغة، سواء تعلق الأمر بالألفاظ أو المعاني المطابقة للحال.
جمال الخلق وجمال التعبير ليسا إذاً مجرد سمات وصفية عامة، بل هما من مرتكزات التجربة الدينية التي هي في عمقها استجلاء للجمال في الأشياء والألفاظ، «فالله جميل يحب الجمال» كما في حديث مسلم.
وإذا كان الصوفية عبروا عن تجاربهم الروحية بلغة الحب المتعلقة بالجمال، فإن مرادهم هو التشبع بتلك الصفات الإلهية الحسنى التي هي مدارات الكمال والرقي الأخلاقي والمعنوي.
لم يكتفِ العرب سابقاً في رصد الجمال في الإنسان واللغة، بل إنهم عنوا بالأنغام والألحان أي بالأصوات الحسنة، فألفوا في الموسيقى، إلى حد أن أهم كتب الفارابي المحفوظة هو كتابه الكبير في الموسيقى الذي خرج فيه عن التصورات الفيثاغورية اليونانية، وقدم فيه أطروحة عميقة في أصول الألحان بربطها بطبيعة النفس والفطرة البشرية. ولقد تبع الفارابي العديد من الفلاسفة والكتاب العرب يضيق المقام عن ذكر أسمائهم.
من المؤسف أن هذه الصورة البراقة قد اختفت في عالمنا الحالي، فلم يعد الجمال قيمة إنسانية وذوقية معتبرة ولا مهمة. قاد التطرف والتشدد إلى إلغاء سمات الجمال والبهاء من حياتنا التي غدت فقيرة كالحة.. بل إن أدب المحبة والعشق أصبح مشبوهاً والموسيقى الجميلة ممنوعة محرمة.
لقد نسينا للأسف قول حجة الإسلام الغزالي قبل عشرة قرون في كتابه «إحياء علوم الدين»: «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج».